أحمد فتحي عامر
الشرك الخفي (13)
في هذه المدرسة أيضا ذُبحت مادة الرياضيات من جديد بعد بضع سنين من مغادرتي، وقد كان المدير السابق توفي - يرحمه الله - في حادث سيارة عائدا من الإدارة في أبها، ودخل المدير الجديد - المتخصص في الشريعة - على الطلبة في اختبار الرياضيات بالمرحلة الثانوية فوجد أمام كل طالب (جداول اللوغاريتمات)، فثار وماج وسحبها من الطلاب، وبذلك أفسد الشيخ على الطلبة الاختبار الذي يقتضي حتما استخدام تلك الجداول ولا تقوم للاختبار قائمة بدونها! وفي فترة وجودي بالمدرسة كان النظام يكلف كل مدرس ليكون مراقبا يوما في الأسبوع، يطلق الصافرة ببدء الحصص والفسحة وانتهائها ومراقبة الطلبة وجاء دوري والمدير يراجع الإدارة في أبها، واليوم الاثنين خمس حصص يصلي بعدها الطلبة ثم ينصرفون، وحين أطلقت صافرة انتهاء اليوم المدرسي وجدت الطلبة كنتف الثلج التي تغطي الجبال عقب المطر في هذه المنطقة، فضاق صدري كثيرا إذ اعتبرت أن عدم أداء الطلبة للصلاة هو غياب المدير وعصاه الغليظة، وأن الطلبة بذلك يصلون لعبدالمعين - وكان هذا اسم المدير - لا للمعين - جل وعلا -، وحين دارت هذه الأفكار في عقلي سراعا استعنت بالمستخدمين الستة في المدرسة على إعادة الشاردين وأقفلت بوابة المدرسة وانتقيت مجموعة الطلبة الذين قادوا هذا الهروب الكبير لسابق معرفتي بمن يفعل، وانتقيت مستخدما ضخم الجثة، عريض المنكبين، مفتول العضلات وجعلته يمسك بالطالب لأضربه بعصا خفيفة بعد أن أبنت لهم وشرحت سبب العقاب وأن ذلك هو عين الشرك الخفي الذي درسوه في التوحيد. في اليوم التالي جاء أولياء أمور هؤلاء الطلبة المعاقبين يشكونني إلى مدير المدرسة، فأرسل في طلبي من الحصة حيث شرحت له وللحضور السبب الذي جعلني أؤدب أبناءهم على فعل هم تعلموا جرمه ولكن ربما لا يدركونه على الواقع، وهنا انبرى المدير بأنه يوافقني على ما فعلت بل ويقول لهم من أراد منكم أن يشتكي فأنا الذي ضربت أبناءكم! العجيب.. أن هؤلاء الأولياء كانوا من نخبة المجتمع! في هذه المنطقة الجغرافية كان هناك شلالات الدهناء، وخارف والمزدان وكيف كنا نرى السمك فيها يجري في الماء الرائق وكانت بيحان تحتضن متنزه وادي العيس فكانت هذه الأماكن مراتعنا في نهاية الأسبوع، كما كنا نتبادل الزيارات العائلية بين بعضنا. ومن الطريف أنني في هذه البلدة استضفت زميلا وأسرته بناء على توصية من صديق عزيز، لمدة ثلاثة أسابيع حتى وجدنا له السكن المناسب وفرشناه، وحين هم بالانصراف بأسرته إلى سكنه الجديد، انتحى بي جانبا وطلب مني أن يدفع نصف تكاليف البيت للأسابيع الثلاثة التي مكثها عندي، فكلنا جئنا من أجل الفلوس هكذا قال، وأخذتني شهامة الفلاح فقلت له. « ياراجل دي كلها شوية ميه بنزودها في القدر وعيب أوي على كل حال أنك تدفع لي أجرة استضافتك». وبعدها بيومين اثنين جلب لي من السوق شيئا معه وحين حاسبته طلب مني ثلاثة ريالات ونصف الريال زيادة ولما سألته: بتوع إيه؟ قال لي بكل بجاحة إنها نصف ثمن أنبوبة البوتجاز التي تخصه وقد وجدها فارغة حين نقلها، يعني أنبوبة الغاز الشيء الوحيد الذي استعملناه اضطرارا لنفاد غازنا، كانت في مفهوم الزميل أغلى بكثير من ضيافة كاملة لمدة ثلاثة أسابيع!