دَعْ جميع الأزهار تتفتّـح
كتـاب جديد وأفكـار جديدة كان لها دور كبير في تعميق نظرتي للحياة وأعطتني دروسـاً جديدة لا تتـوانى الظروف المحيطة والمفارقات التي نشهدها والكتب التي نطالعها في إفرازها لنا يوميّـاً دون كلل أو ملل.
كتـاب اليوم هـو:
ضـيـاع ديني
صرخة المسلمين في الغرب.
تأليف: جيفري لانغ.
ترجمة: إبراهيم يحيى الشّـهابي.
نشـر دار الفكر.
الطّـبعة الأولى 1428 هـ/ أيّـار (مايو) 2007 م.
عندمـا يقرأ الإنسان ذلك الكتاب تتوارد لذهنه عدة موضوعات، عدة أسئلة تحيّـره وتحزنه.
أوّلاً: كـان القسم الأوّل من الكتاب أكثر من رائع، وخـاصّـة عندمـا تعـرّض لفـكرة الدنيـا التي نحيـاهـا والاِبتلاءات التي تعترينـا ونتعرّض لـها بين الفينـة والأخرى، ومفهـوم الـزّمن في هذه الدنيـا الفانيـة .
كانت تعليقـاته واستنتاجـاته أكثر من رائعـة، كـان قـوله تعـالى على لسـان الملائكـة عندمـا ســألت الله عز وجـل عن مـبرر خـلق آدم عليـه السّـلام: “أتَجـعـلُ فيـها من يُـفسِـدُ فيها ويسْفِـكُ الدّمـاءَ….؟!! قال إنّـي أعلـمُ ما لا تعـلمون” أقول كانت تلك العبـارة هي المفتـاح الذي فتح وبيّـن أمـامه جميع ما كان مُشكَلاً في ذهـنه وأعطـاه فهـماً عميـقـاً لهذه الدنيـا والحكمة من وجـودنـا فيـهـا ، اعتـراضـاً وشكّـاً طـالما راوده.
ثانيـاً: لكم شعرتُ بالتّـقصير وتأنيب الضمير وأحسستُ بعِـظَـم المسؤوليّـة المُـلقاة على كاهلنـا نحن المسلمين النّـاطقين بلغـة الضّـاد تجـاه غيرنـا من إخواننا المسلميـن ذوو اللسـان الأعجمي، سواء أكـانوا مسلمين أبـّاً عن جد، أو الداخلين جديداً في الإسلام.
تجـلّى ذلك عندما ذكر المؤلّـف الكثير من الإشكالات التي كان يتعرّض لهـا عـند قراءتـه لبعض العبارات الواردة في التّـرجمة الإنكليزيّـة للقـرآن الكريم والتي كـادت تودي بـه إلى التّـشكيك بالقرآن أو مصدره أكثر فـأكثر.
ولـكن بـعد أن اطّـلع على المعنى الصّـحيح لتلك المُـفرَدة انجلى عنه الإشكـال وتبدد.
قـلت: يالله كم نحن مقصّـرين.
كم من الجهود والطّـاقات تُبذل، لا بل تضيع فيمـا لا ينفع ولا يُـغـني.
آه لو صرفـنـا كل ذلك في مثـل هذه المجالات.
يعني تبـادر إلى ذهني فوراً الكم الهائل من الرّوايات التي يتم ترجمتها سنويّـاً من مـا يسـمّـونـه الأدب العـالمي، أو حتّـى غير العالمي.
وأيضـاً نـرى أحيانـاً ترجـمات متعدّدة لرواية واحدة.
وكل ذلك لا يكـاد يتجاوز حقل الروايات والقصص، ولكن تعـالوا إلى ما فيه الفائدة بحق، لا نكاد نجد من يفكـر بذلك أو يعبأ بـه.
لا أنكر فـائدة ترجمة الروايات وقراءتها خاصّـة عندما تكون تحمل معنىً راقيـاً وفكراً نيّـراً، ولكن أن نحصر الترجمة في إطـار الترجمات فقط فهذه هي الكارثة.
لـذا ربّما أستغل هنا هذا الموقع لأوصل تلك الشّـكوى للمُـثقّـفين الذين يُـطالعون هذا الموقع ويُـتقنون كلا اللغتين العربيّـة والإنكليزيّـة (أو حتّـى غيرهـا من اللغـات)أن يحاولوا بذل الجهد في القيـام بترجـمةِ ما يُـعين هؤلاء المسلمين في فهم دينهم على النّـحوالصّـحيح السّـليم البعيد كل البعـد عن التحزّبات والأفكـار التٌقليديّـة المتوارثة دون تمحيص أو بحث.
سـواء إعادة ترجمة القرآن الكريم (لأن هذا الموضوع هو الذي تطرّق له الكاتب بشكل واضح) أو ترجمة الكتب التي تبيّـن وتوضّـح ديننا وأفكارنا بشكـل واضح بسيط بعيد كل البعد عن التـقاليد والعادات البالية، أي دون أن نخلط بين ما هو دين وشـرع مُـحكم من عنده تعالى، وبين ما توارثناه من آبائنا بحكم البيئة التي نشأنا فيها وبات من الصعبٌ علينا الفكاك منها، لا بل قد نُـدرجـهـا أحيانـاً في قائمـة أولويّـات الـدّين.
وطبعـاً لا أُنكـر أنّـه ليس بالأمر الهيّـن البسيط. لـذا ما المانع أن نفكّـر بتكوين فريق يتساعد فيما بينه في الفـهم الصحيح للنّـص أوّلاً، بعد مناقشة وجهـات النّـظر حـوله، ومن ثمّ ترجمته التّـرجمة الصّـحيحة الحيـاديّـة.
كل ذلك في سبيل أن لا نقف وقفة المقصّـر بين يدي الله عزوجلّ أن لم نُـقـدّم ما كان باستطاعتنا تقديمه من أجل نصرة هذا الدين، ولا نكون سببـاً في بُـعد النّـاس عنه.
ولننظر أيضاً بالطريق المعاكس، كم يُنشر أيضاً سنويّـاً من الكتب القيّـمة جداً في الغرب ولكن أيضاً لا تصلنا ولا يتم ترجمتها، وإن تمّ ذلك فبعد سنوات طويلة من نشر الكتاب وبالتالي يكون هناك أفكار جديدة قد ظهرت وأمور عديدة قد فرضت نفسها ونحن لا نزال نطالع تلك المعلومة القديمة التي وصلتنا للتو. (فمثلاً هذا الكتاب كانت الطبعة الأولى منه بالإنكليزيّـة نُشـرت عـام 2004، وتُرجمت للمرّة الأولى إلى العربيّـة 2007 هل يُعقـل هذا!!!)
أدركتُ بعد قراءة عـدّة كتب تتحدّث عن الإسلام بأقلام غربيّـة أنّ المشكلة بيننا وبين الغرب وأحد أهم أسباب الصّـراع أو ربّـما العداء هو الجهل الذي يحمله كل منّـا عن الآخر.
طبعـاً أنـا أتحدّث عن المجتمع بشكل عام لا عن المتنفّـذين.
ترانـا نجهـل من هو الآخـر الذي نصارعه ونعاديه وهو بالتّـالي يجهلنـا لا بل أكثر من ذلك يحمل صورة مشـوّهـة عنّـا.
ولن يُـلغي كل ذلك أو يصحّحـه سـوى الإطّـلاع على فكـر الآخـر، والمُـرشّـح الأوّل والأخير لتغيير تلك الصّـورة هو الكتـاب.
ثالثـاً: راعـني وأذهلني ما تجلّـى واضحـاً في صفـحات الكتاب كيف أنّـنـا لا نتوانى في نقل أمراضنـا معنـا أينـما رحلنـا وارتحلـنا.
وكل ذلك يُـساهم في بُـعد الآخر عن الإسلام للصّـورة السيّـئة التي نعرضهـا عنه من خلال تصرّفاتنا.
فـأن نكون مقصّـرين في نشـر الإسلام والتّـعريف به فتلـك مشـلكـة، أمّـا أن نُـساهم في التّـنفير منه فهذه كـارثـة مـا بعدها كـارثة.
يعنـي أكّـد المؤلّـف في كتـابه هذا، وكتـابـه السّـالف (حتّى الملائكة تسـأل) كيـف أن بيـئة المسـاجد هُـنـاك لا تكـاد تختـلف كثيـراً عن واقعنـا المُـعـاش هـنـا، الذي نعـاني منه ويُـساهـم كل يوم لا بل كل لحظة في تفرّقـنـا وتشرذمنا وتعميق كراهيتـنا بعضـنا لبعض، وكان ذلك كفيلاً بتنفير الجاليات هناك من الذهـاب إلى المسـاجد وارتيـادهـا.
كم كانت تراودني أفكـار رائعة وأحلام جميـلة عندما كنت أسمع أو أرى مسلميـن يعيشون في الغرب.
كنت أقول: لا شكّ أنّـهم يحيـون حيـاة سليمـة سعيدة، كونهم يعيشون في مجتمع ممكن أن أصفـه بـأنّـه يـكاد يكون سليـمأً فكريّـاً وثقافيّـاً ….
ولـكن كم ذُهـلتُ -بعدما قرأت هذا الكتاب- أنّ تلك الصّـورة كانت في ذهني فقط ولا تتجـاوز حدود مخيّـلتي، إذ أنّ الواقع بعيد كل البـعد عن كل ما تصوّرتـُه، حيث أنّـه يـقارب واقعـنا المريض لا بل أحيـاناً يكـاد يُـنافسه أو يتفـوّق عليه.
كم أحزنني ذلك وتسـاءلتُ مع نفسي ومع سـلمـى: تُـرى ما السّـر في ذلك؟؟
وكـأنّـه من يُـتاح لهم الذهـاب إلى هـناك هم أولئك الذين يُـعـانون من أمراض اِجتماعـيّـة نفسيّـة مُـتـأصّـلـة في عوالمهم الـدّاخليّـة، يكـاد التُّـخلّـص منها يبدو من ضرب المستحيـل.
لسـان حـالي يكـاد يسـألـهم: لِـما كل هذا؟؟؟!!!
أرجوكم كفّـوا عن ذلك.
طـالـمـا أنّـه قد أتـيح لكم العيش في جوٍ نظيف وبيئة سليـمة أرجوكم ليكن جهدكم في الاِستفـادة من تلك الأجواء في نشـر العقـيدة التي تحملـوهـا بأسـلوب صحيح محبّـب راقٍ.
أرجوكم لا داع لأن نقـوم ببث أفـكـارنـا المريضـة وتصديرها للآخر، ممّـا سيُـسـاهم في البـعد عن الإسـلام أكثر وأكثر، لا بل والنّـفـور منه. وكل ذلك بسبب الأهـواء والمصـالح الشخصيّـة والتي دافعها الأول والأخير هو حب المركز والسّـلطة والأنـا لا أكثر ولا أقـل.
فـكم مؤسـف أن يتم اِختصـار الإسـلام ونشـره للآخر من خـلال أفـكـار مريضـة دافـعها الأوّل والآخر هو الأنـا.
رابعـاً: لا بـد أن أقـوم باستغلال هذه النّـافـذة لمناشـدة الآبـاء والأمّهـات قـائلـة:
أرجوكم كونوا قريبين من أولادكم حاوروهم قبل أن تخسروهم.
والمشكـلة أنّ الخسـارة هُـنا هي خسارة دينيّـة ودنيويّـة.
دنيويّـة: لأنّـها تقطع آخر خيط من الود والقرب بين الأولاد (أو ما سمّـاهم المؤلّـف الجيل الثّـاني) وبين آبائهم من الجيل الأولّ المتشبثين بأفكـارهم و.. لا أقول معتقداتهم ولكن موروثاتهم.
دينيّـة: وذلك لأنّ ذلك يُـساهـم يوميّـاً في بُـعـد هؤلاء عن دينهم الذي ورثوه عن آبائهم بطريقـة تقليديّـة قائمة على التّـقليد الببغـاوي لا أكثر ولا أقـل والذي يختلـف كل الاِختلاف ويبتعد كل البُـعد عن جو الحوار والنّـقـاش الذي ألفـوه في مـدارسـهـم التي قـام آباءهم بوضعهم فيـهـا.
يجب أن يكون المبدأ الذي تقوم عليه علاقة الآبـاء مع أبنائهم والتلامذة مع مرشديهم قائمة على أسـاس الحوار والنّـقاش والسّـؤال المستمر حتّـى تتبـدّى الشكوك والأوهـام التي ممكن أن تكون موجودة في ذهن ذاك الولد أو التلميـذ، لذا اخترتُ عنوان تلك المقالة “دع جميع الأزهـار تتفتّـح”.
كيف لهـا أن تتفتّـح إن كان محظوراً عليها السؤال والأخذ والرد والنّـقاش.
للأسـف يحسب الآبـاء أو المرشدين أنّ السـؤال في أمور عقيديّـة دينيّـة أمرٌ محظور ولا يجوز ولكنهم للأسف لا يعلمون أنّـهم بسلوكهم ذاك يخـالفون نصّـاً صريحـاً في كتـاب الله عـزّ وجل يحث على البحـث والسّـؤال والاستفسـار حتّـى ينجـلي الأمر ويتّـضح.
يـقول الله عـزّوجـلّ في سورة الإسـراء: “ولا تَـقـفُ ما ليس لك به عـلمٌ، إنّ السمـع والبصـر والفؤاد كـل أولئك كـان عنه مسؤولاً”.
لا أزال أذكـر إلى الآن أنّ الدكتـور محمـّد سعيـد رمضـان البوطي افتتح بتلك الآيـة دروس العقيدة وإثبـات وجـود الله والإيمـان بـه.
شـارحـاً ذلك بقـولـه: إنّ إيمـانك بالله تعـالى إن لم يكن على علم دقيق ثابت فـأنت مـحاسب مسؤول.
وكيف لنـا الحصـول على هكذا درجـة من الإيمان إلا عن طريق الأسئـلـة والاِستفسـارات التي يجب أن تتسـع صدورنـا لسماعهـا و قبولهـا ومن ثـمّ توضيحـهـا.
وآيـة أخـرى واضحـة جليّـة في المعنى ذاتـه قـولـه تعالى: “فـاعلـم أنّـه لا إلـه إلا الله”.
أي عليـك أن تـدرس وتتعـلم لا أن تكتفي بمجرّد التـفـوّه اللفـظي فقط.
ذاك الإيمان لن يقـوى أمـام المحـن مهـما هـزُلَـتْ.
مـا ساقني لهذا الكلام هو ما ذكره المؤلّـف كيف أنّ ذاك الجيل الثّـاني من المسلمين يعاني من هذه المشكلة (أعتقد أنّ ذلك لا يقتصر فقط على أمريكـا فقط، ولكننـا هنا نعاني منه أيضـاً) ألا وهي عندمـا يحاول أن يـعرض استفـسار معيّـن أو إشكـال مـا بشؤون أمـور العقيدة، ومـا يتعلّق بوجود الله تعالى أو مثلاً آيـات معينـة لم تتضـح له بشكل جلي، تراه يُـقابَل بالصّـد والهجوم من قِبل الأهـل لذا تراهُ يتجـرّع الآهة في نفسه وبالتـالي يومـاً بعد يوم تنمو هـُوّة بين الآباء والأبناء وتتنامى الأمور التي كانت تُـساهم بشكوكهم وبُـعدهم عن الدّين الذي ورثوه عن آبائهم، لا بل يمكن أن تـكبر وتنمو مع الأيّـام وما من مجيب.
وباعتقادي أنّ السبب الذي يجعل الإنسـان يُـغلق باب الحوار هو كـونـه يقف على أرضٍ غيـر متيـنة بالكـاد يستـطيـع أن يـأخذ تـوازنه عليـها، فكيـف لـه أن يحقق ذاك التّـوازن لغيـره.