(1) هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى
في أدلة أنواع العبادة
التي ذكرها في قوله: "وأنواع العبادة التي أمر الله
بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء . . " إلخ،
فبدأ رحمه الله بذكر الأدلة على الدعاء وسيأتي إن شاء الله
تفصيل أدلة الإسلام والإيمان والإحسان.
واستدل المؤلف رحمه الله بما يروى
عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
أنه قال : " الدعاء مخ العبادة (15)
واستدل كذلك بقوله تعالى:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)
فدلت الآية
ودليل الخوف قوله تعالى(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1) ،
(آل عمران:الآية175).
الكريمة على أن الدعاء من العبادة ولولا ذلك ما صح
أن يقال: ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون
جهنم داخرين ) فمن دعا غير الله عز وجل بشيء
لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو
حياً أو ميتاً . ومن دعا حياً بما يقدر عليه مثل
أن يقول يا فلان أطعمني ، يا فلان اسقني فلا شيء فيه ،
ومن دعا ميتاً أو غائباً بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت
أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل
على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً.
واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات
وهو عبادة إذا كان من العبد لربه ، لأنه يتضمن
الافتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه ،
واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة.
ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين
إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة
كما سبق في قوله القائل يا فلان أطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلباً لثوابه
وخوفاً من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله
شرك أكبر مخرج عن الملة وعليه يقع الوعيد
في قوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(غافر:الآية60) .
(1) الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع
ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى
عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
ودليل الرجاء قوله تعالى(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (1)
(الكهف:الآية110)
والخوف ثلاثة أنواع :
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع
والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى
عن موسى عليه الصلاة والسلام(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ )
(القصص:الآية18)
لكن إذا كان هذا الخوف كما
ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً ؛
لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام
ودليله قوله تعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(آل عمران:الآية175) .
والخوف من الله تعالى يكون محموداً ،
ويكون غير محمود .
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله
بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات،
فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب
عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه. وغير المحمود
ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ
يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحداً يتعبد
بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى.
وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر ،
أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة
سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك.
(1) الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال،
وقد يكون في بعيد المنال
ودليل التوكل قوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
(المائدة:الآية23) ،
وقال(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (1) (الطلاق:الآية3).
تنزيلاً له منزلة القريب.
والرجاء المتضمن للذل والخضوع لا يكون إلا لله عز وجل
وصرفه لغير الله تعالى شرك إما اصغر ،
وإما أكبر بحسب ما يقوم بقلب الراجي .
وقد استدل المؤلف بقوله تعالى
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)
(الكهف:الآية110) .
واعلم أن الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله
ورجا ثوابها، أو تاب من معصيته ورجا قبول توبته ،
فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمن مذموم.
(1) التوكل على الشيء الاعتماد عليه.
والتوكل على الله تعالى: الاعتماد على الله تعالى كفاية
وحسباً في جلب المنافع ودفع المضار وهو من تمام
الإيمان وعلاماته لقوله تعالى(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:الآية23)
وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى كفاه الله تعالى
ما أهمه لقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
(الطلاق:الآية3)
أي كافيه ثم طمأن المتوكل بقوله(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ )
(الطلاق:الآية3) .
فلا يعجزه شيء أراده.
وأعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان
وعلامات صدقه
ودليل الرغبة (1) والرهبة -(2) والخشوع (3)
قوله تعالى: } إنهم كانوا يسارعون في الخيرات
ويدعوننا رغبا ورهباً وكانوا لنا خاشعين { (1)
{سورة الأنبياء، الآية: 90}.
ودليل الخشية قوله تعالى: } فلا تخشوهم واخشوني{
(2) {سورة البقرة، الآية: 150}
وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ،
أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن
يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون، ولا فر ق
بين أن يكون نبياً ، أو ولياً ، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير
مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل
أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه فهذا نوع من
الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والاعتماد عليه.
أما لو اعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى
هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به،
إذا كان للمتوكل عليه أثر صحيح في حصوله .
الرابع : التوكل على الغير فيما يتصرف فيه المتوكل
بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة
فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع
فقد قال يعقوب لبنيه (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ)
(يوسف:الآية87)
ووكل النبي صلى الله عليه وسلم ،على الصدقة عمالاً وحفاظاً ،
ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن أبي طالب ر
ضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها
وجلالها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر
صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين.
وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة.
(1) الرغبة : محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
(2) والرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي
خوف مقرون بعمل.
(3) الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم
لقضائه الكوني والشرعي.
(1) في هذه الآية الكريمة وصف الله تعالى الخلص
من عباده بأنهم يدعون الله تعالى رغباً ورهباً مع الخشوع له،
والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة ،
فهم يدعون الله رغبة فيما عنده وطمعاً في ثوابه مع خوفهم
من عقابه وآثار ذنوبهم ، والمؤمن ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى
بين الخوف والرجاء، ويغلب الرجاء
في جانب الطاعة لينشط عليها ويؤمل قبولها ،
ويغلب الخوف إذا هم بالمعصية ليهرب منها وينجو من عقابها.
وقال بعض العلماء : يغلب جانب الرجاء في حال المرض
وجانب الخوف في حال الصحة؛ لأن المريض منكسر
ضعيف النفس وعسى أن يكون قد اقترب أجله فيموت
وهو يحسن الظن بالله عز وجل ، وفي حال الصحة
يكون نشيطاً مؤملاً طول البقاء فيحمله ذلك على الأشر
والبطر فيغلب جانب الخوف ليسلم من ذلك.
وقيل يكون رجاؤه وخوفه واحداً سواء لئلا يحمله
الرجاء على الأمن من مكر الله ، والخوف على اليأس
من رحمة الله تعالى وكلاهما قبيح مهلك لصاحبه .
(2) الخشية هي الخوف المبني على العلم بعظمة
من يخشاه وكمال سلطانه لقوله تعالى
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر:الآية28)
أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف
ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص
لا تدري هل هو قادر عليك أم
ودليل الإنابة قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (1) (الزمر:الآية54).
لا فهذا خوف ، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر
عليك فهذه خشية . ويقال في أقسام أحكام الخشية
ما يقال في أقسام أحكام الخوف.
(1) الإنابة الرجوع إلى الله تعالى بالقيام بطاعته
واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها
أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه
ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)(الزمر:الآية54).