الزهد في الدنيا!
أحسن من الزهد إخفاء الزهد , حكمة من حكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه , وقد سئل الجنيد رحمه الله تعالى عن الزهد فقال :الزهد استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب .
وقد تكاثرت الآيات والأحاديث التي تحث على الزهد في الدنيا قال الله سبحانه وتعالى : "إعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ " .
قال النبي صلى الله عليه وسلم" كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل" ولا أستطيع ذكر كل الآيات أو الأحاديث ففي ما سبق كفاية لمن أراد الهداية.
ومع ظهور هذا المعنى نجد أنفسنا تميل إلى الدنيا وتعانقها يزداد هذا الأمر كلما تقدم العمر وقد أبان هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:" يشيب ابن أدم وتشب معه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل " .
فكم عرضت مفاتنها لناسك فغوته وكم تمايلت لعالم فأضلته وكم تزينت لحاكم فاستخفته, وبالجملة كل ظلم وكل ضلال وكل فساد سببه وصال هذه الدنيا وعانقها نعوذ بالله ان نكون ممن يتعلق بها وينسى آخرته .
فرضي الله عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب حين خاطب الدنيا فقال : يا دنيا غرّي غيري قد طلقتك ثلاثا , ورحم الله زين العابدين علي بن الحسين حين قال :
فلا تغرنّك الدنيا وزينتها ... وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ
وفي هذا المعنى قلت :
رماني ذا الزمانُ بكلِّ داءٍ ... فهل عند الطبيبِ له دواءُ
فلما أن تداركني الهلاكُ ... وولّى الصبرُ عنيّ والعزاءُ
أتاني طيفُ قاتلتي فقالت ... رعاكَ اللهُ ما هذا الشقاءُ
فقلتُ لها بربكِ أخبريني ... عن الدنيا وهل فيها رخاءُ
فقالت كيف ترجو من غرورٍ ... رخاءً لا ولا يُرجى صفاءُ
فلا عيشٌ يدومُ ولا سرورٌ ... ولا وصلٌ يكونُ ولا لقاءُ
فما إسعادها إلا شقاءٌ ... وما إضحاكها إلا بكاءُ
فطلقها ثلاثاً لا تـُبالِ ... ولا تبنِ بها فهي البلاءُ
فقلتُ فكيف حالُ الناسِ فيها ... فقالت ليس يحويهم وعاءُ
تعددتِ المذاهبُ واستبانت ... وعمَّ الجهلُ فيهم والجفاءُ
ومن الخدائع الإبليسية والمداخل الشيطانية أن إبليس وجنوده ينظرون في الناس ولهم على كل طائفة مدخل , ومن مداخلهم على الزهاد أنهم يوحون إليهم أن أزهدوا في هذه الدنيا ويحببون لهم ذكر الناس والثناء عليهم فإذا حدث هذا وكانت نيتهم الزهد لأجل الثناء كان هذا العمل رياءً للناس وكان باطلا .
وهنا لا يتبادر في الذهن أني أدعو إلى ترك الدنيا وهجرها بالكلية فسأكون أول من يخالف هذا وأعيذك ونفسي بالله أن يصدق فينا قول الأول :
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى لا يدرُ لها ثغلُ
فإننا نجد الكثير ممن يزهدون الناس في الدنيا وإذا ما عرفت حالهم وجدتهم مرتمين في أحضانها هائمين فيها وسيرّ طرفك شرقاً وغرباً ستجد وسترى من أعنيهم ولن تتعب في البحث عنهم .
لكن أقول لا تجعل الدنيا شغلك الشاغل واسأل الله أن يجعلها في يديك ولا يجعلها في قلبك وتعامل معها بحرص واجعل قول الله تعالى بين عينك : " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا " ذكر الإمام القرطبي عند تفسير هذه الأية خبراً لا أعلم عن صحته عن جابر رضي الله عنه قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم غلام فقال إنّ أمي تسألك كذا وكذا فقال " ما عندنا اليوم شيء" قال: فتقول لك اكسني قميصك فدفعه إليه فجلس في البيت عريانا , فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فاشتغلت القلوب فدخل بعضهم فإذا هو عارٍ ,فنزلت هذه الآية.
ثم أنظر إلى هذا الأجر الكبير والفضل العظيم فقد أخرج الإما الترمذي وغيره أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :" التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والشهداء "
ورحم الله أبا الطيب المتنبي حين قال :
وأتعب خلق الله من زاد همهُ ... وقصّر عما تشتهي النفس وجدهُ
فلا ينحلل في المجد مالك كلهُ ... فينحل مجدٌ كان بالمال عقدهُ
ودبرهُ تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زندهُ
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالهُ ... ولا مال في الدنيا لمن قلَّ مجدهُ
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالاً ينفقه في الحق ، ورجل آتاه الله القرآن ؛ فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار " فمن حاز المال فقد ملك قلوب العامة ومن حاز العلم فقد ملك قلوب الخاصة ومن جمع الله له الأمرين فقد ملك الناس.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الدنيا ممر ومدة البقاء بها قصيرة , واللبيب مَن جعل لنفسه ذكراً بعد وفاته بحيث تكون الوفاة هي الولادة الحقيقية :
قال أبو الطيب رحمه الله :
ذكر الفتى عمرهُ الثاني وحاجته ... ما قاته وفضولُ العيش أشغالُ
وقال أحمد شوقي رحمه الله :
دقات قلب المرء قائلة له ... إنَّ الحياة دقائقٌ وثوانِ
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر للإنسان عمرٌ ثانِ
ولن يتحقق هذا الذكر إلا بعلم نافع أو بذل واسع أو خلق طيب أو سلوك حسن , نسأل الله تعالى أن يحسن نياتنا وأن يرفع ذكرنا .
رقم : سعيد بن صالح بن علي الحمدان
منقول