قد يستغرب قارئ "بجماليون" أن هذا الاسم ليس من أسماء شخصيات المسرحية. ذلك لأن الكاتب الإيرلندي "جورج برنارد شو" أخذ فكرة العمل عام 1912 من أسطورة يونانية قديمة عن مثّالٍ يدعى بجماليون كان كارهاً للنساء، فأراد أن يصنع تمثالاً لمايجب أن تكون عليه المرأة المثالية. وعندما انتهى من صنع التمثال العاجي بُهر بجماله الذي فاق حُسنَ أي امرأة من الأحياء. وماحدث بعد ذلك أنه غرق حتى أذنيه في غرام التمثال وبدأ يحضر له الهدايا من أثواب وحلي من تلك التي تغري الفتيات الجميلات، وأفرد للتمثال سرير مريحا ومخدة من ريش. كان يزوره يوميا ليطمئن عليه متأملا أن تدب فيه روح الحياة، لما كان يبدو عليه من الاكتمال والجمال. فيحرق البخور ويقدم القرابين لفينوس لتحول فتاته العاجية إلى روح حية ليتزوجها.
وبمعنى أدق ليلتحم جسد الفنان بقطعته الفنية التي خلقها كاملة جامدة. لكن الطريف في الأسطورة أن جلاتيا وهو الاسم الذي أطلقه المثال على تمثاله تدب فيها الحياة فعلا ويتحقق للفنان مايريد.
لم تلهم الأسطورة "برنارد شو" وحده، بل إن "توفيق الحكيم" عالج الأسطورة بطريقة جعلته يحول جلاتيا إلى فتاة مفتونة بجمالها مغرورة وأنانية ويسبغ عليها صفات بشرية فتتركه لتهرب مع شاب وسيم. فيعود بجماليون الخالق القاصر لتقديم القرابين لفينوس لتعيدها إلى حالها الأول كتمثال عاجي، وعندما يتحقق له ذلك يقوم بتحطيمها.
لقد ألهم بجماليون "برنارد شو" قصةً كانت أرضية خصبة للفن عامة (شعر وموسيقى وفن تشكيلي) وللدراما المسرحية والسينمائية عالميا وعربيا. ولا شك أن أغلبنا يذكر على الأقل فيلم "سيدتي الجميلة" my fair lady الذي قامت ببطولته "أودي هيبورن" في النصف الثاني من القرن العشرين والذي اعتبر في حينه أفضل فيلم أميريكي. وتم تحويله إلى مسرحية عربية بنفس الاسم قام ببطولتها كل من شويكار وفؤاد المهندس.
إن نص شو المسرحي لم يكن مختلفا بعمق الفكرة والمضمون عن الأسطورة الأصلية، رغم أنه اختلف كليا من حيث الشكل. فعالِم الصوتيات د.هيجنز (بيجماليون شو) رجل علم ومعرفة، أبعد مايكون عن رومانسية ومثالية بيجماليون الأسطورة أو بيجماليون توفيق الحكيم. د. هيجنز يأتي بـ"إليزا" بائعة الزهور السوقية ويُخضعها لتجربة علمية، ليؤكد أنه قادر على تحويلها من فتاة جاهلة إلى سيدة مثقفة وراقية. وبالنسبة له الأمر ليس مجرد تحول مادي أو طبقي بل هو تحولٌ جذري، فكري وسلوكي. ولم يعد من الممكن بعد أن ارتقت إليزا درجاتٍ واتسع وعيها أن تفكر بالزواج من طبقتها. فتدخل مرحلة صراع جديدة مع أستاذها في محاولةٍ للايقاع به والزواج منه. فهو أستاذها وصانعها ومثلها الأعلى. لكن إليزا الجديدة سرعان ما تدرك أنها أصبحت تمتلك سر التحرر وهو العلم، وبعلمها بإمكانها أن تعمل وتحقق أيضا استقلالها الاقتصادي وترتقي من مجرد تمثال جميل إلى إنسان متحرر وقادر.
برنارد شو في مسرحية بجماليون قدم أفكاره في العلاقات الانسانية والاجتماعية. أدعوكم لقراءة هذه المسرحية فهي أثرى بكثير مما يمكن أن يُطرح ملخصاً في مقالٍ واحد. ولأنني منحازة بتطرف للعمل الأدبي الذي يحافظ على تفوقه في مقابل كل الريبورتوارات المكتوبة والمجسدة فنيا.