عرض مشاركة واحدة
منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز منتديات طلاب وطالبات جامعة الملك عبد العزيز
قديم 03-09-2009, 03:01 PM   #10

Mohannad Najjar

بايسون

 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
كلية: أخرى
نوع الدراسة: إنتظام
المستوى: منسحب
البلد: جدة
الجنس: ذكر
المشاركات: 473
افتراضي رد: فـي رحـاب الأدب والأدباء ( مقتطفات نثرية / شعرية )

(6)

الشيخ علي الطنطاوي و« فن الكلام » !

فقيهُ الأدُباءِ وأَديبُ الفقهاءِ(1) العلاَّمةُ الأديبُ الشيخُ علي الطَّنطَاوِي المتوفى 1420هـ _رحمه الله تعالى_.

للأستاذِ الطنطاوي _رحمه الله تعالى_ عدداً من المؤلفاتِ الممتعةِ، وقَدْ امتَازَتْ مِنْ بَيْنِ غَيْرِهَا مِنَ المؤلفاتِ بأسلوبِه السَّلسِ الممتعِ الجذَّابِ، منها: « الذكرياتُ » في ثماني أجزاءٍ، و« تعريفٌ عامٌ بدينِ الإسلامِ » و « صُوَرٌ وَخَوَاطِرٌ » و « نُورٌ وَهِدَايَةٌ » و« رِجَالٌ مِنَ التَّارِيخِ » و« مَعَ النَّاسِ » و« مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ ». وغيرِها.

أقتبسُ هنا بعضَ كلامِ الأستاذِ _رحمه الله تعالى_ في « فَـنِّ الكَـلاَمِ » وبهذا العنوانُ مقالَتُه الأخيرةُ في كتابِ « صورٌ وخواطرٌ ».

يحكي الأستاذُ _رحمه الله تعالى_ عن سببِ كتابتِه في هذا الموضوع فيقول (ص374 - الطبعة السابعة) :

(( زارني الليلة البارحة صديق لي فاستقبلته واعتذرت إليه بأني مشغول، عندي مقالة، قال: كل يوم مقالة، أو حديث؟ متى تنتهي هذه المقالات وهذه الأحاديث ؟ . .

قلت : حتى أنتهي أنا . . .
قال : إنك تنشر باستمرار من أربعين سنة(2) فمن أين تجيء بهذه الموضوعات كلها ؟

قلت: أسمع كلمة من تكلم، أو أبصر مشهداً في طريق، فأديرُ ذلك في ذهني; ولا أزالُ أولِّدُ من الكلمة كلمة، ومن المشهد مشهداً حتى يجيء من ذلك حديث أو مقالة.
قال: أرني كيف تصنع حتى أتعلم!

فضحكتُ وقُلتُ: إنها عملية تتم في ذهني لا في يدي، فكيفَ أُريكَ مالا يُرى ؟

وكنا قد شربنا القهوة ولكني لم أكتفِ بها ووجدت أنها لا تزالُ بي رغبة إلى الشاي وأنا كالإنكليز (في هذه فقط) أشرب الشاي في الصباح وفي الأصيل وفي الليل لا أنتهي منه حتى أعود إليه.

فقلت للبنت: قولي لأمك أن بابا يسألك: هل من آداب الضيافة أن نقدمَ الشايَ بعدَ القهوةِ ؟
فذهبت فقالت لها: بابا عاوز شاي.

قلت له: «أسمعت؟ هذا موضوع حديث»
قال متعجباً: هذا؟

قلت: نعم. لقد بعثتُها لتنقلَ إليها عبارة معناها إني أريد شاياً. ولكني جعلتها نكتة(3) لطيفة، ليس فيها أمر وليس فيها جفاء. . . فأضاعت البنت هذه المزايا كلها حين بلغتها المعنى المجرد جافاً قاسياً كأنه أمر عسكري.
أفلا يوحي إليكَ هذا بشيءٍ ؟
فنظر وقال: لا!

قلت: أما أنا فقد ذكرني بقصة الأمير الذي رأى رؤيا مزعجة فدعا بمن يعبرها له، فقال له: تفسيرها أنها ستموت أسرتك كلها، فغضب الملك وأمر به فجلد عشر جلدات وطرد. ودعا آخر، فقال له . . . أيها الأمير إن تعبير رؤياك واضح أنك أطولُ عمراً من أسرتِكَ كلها.
فسر الأمير وأمر أن يُعطَى عشرةَ دنانيرٍ.
والمعنى واحد ولكن هذا قذف به في وجه الأمير عارياً صلداً كأنه يقذِفه بحجر; فخرج مضروباً. وذلك لفه بثوبٍ جميلٍ من حُسْنِ التعبير، وقدمه إليه بيمينه برفقٍ وتعظيمٍ فخرجَ بالجائزةِ.
إن هذا هُوَ الموضوعُ؟

قال: إني لم أفهم شيئاً إلى الآن؟ فما هو الموضوع؟
قلت: فن الكلام . )) انتهى.

ثم يقول الأستاذ _رحمه الله تعالى_ (ص376) :
(( إن الإنسانَ كما يقولونَ حيوانٌ ناطقٌ، وليسَ النطقُ أن يُخرِجَ الحروفَ ويصفَّ الكلامِ، بل أن يعرفَ كيفَ يتكلمُ. ورُبَّ كلمةٍ تُدخِلُ الجنةَ، وكلمةٌ تُدخِلُ النارَ، وكلمةٌ أنجَت من القتلِ، وكلمةٌ دفعَت صاحبَها إلى القتلِ. ورُبَّ صاحبِ حاجةٍ عندَ وزيرٍ أو كبيرٍ، عَرِفَ كيفَ يطلبُها فقُضِيَت له، وآخرٌ طلبَها فلمْ يصِلْ إليها. وكثيراً ما كانَ يقصدُني أربابُ الحاجاتِ يسألونَني أن أكلمَ لهم من أعرفُ من الوزراءِ والكبراءِ وأنا أكرَهُ أن أسألَ في حاجةٍ لي أو لغيري، فكنتُ أعتذرُ إليهم ولكني أفيدُهُم فائدةً أكبرَ مِنْ وساطتي، هي أن أُلقِّنَهم الكلامَ الذي يقولونَهُ للوزيرِ أو للكبيرِ ولولا أن الوقتَ يضيقُ عَنِ التمثيلِ لضَرَبتُ لذلك أمثالاً.
وفي كتبِ الأدبِ العجائبَ في هذا البابِ ولعلي أعود إلى الكلامِ فيها يوماً. )) انتهى.

ثمَّ يواصلُ كلامَه الأستاذُ بكلامٍ مِنْ أنْفَسِ ما يُقالُ:
(( ...وهذا فَنٌّ لا يُتَعَلَّمُ تعلماً ولكن يُوصَلُ إليهِ بالقلبِ الذكيِّ، وبأن تَعرِفَ خُلُقَ مَنْ تكلِّمَه والطريقَ إلى نفسِهِ. وكل نفسٍ لها بابٌ، وإليها طريقٌ، لم يخلقَ اللهُ نفساً مغلقة لا بابَ لها، فهذا يُدخَلُ إليه من بابِ التعظيمِ، وهذا من بابِ العاطفةِ، وهذا من بابِ المنطقِ، وهذا من بابِ التهديدِ والتخويفِ، وهذا يزعجُه التطويلُ ويحبُّ الاختصارَ، وهذا يؤثرُ الشرحَ والبيان. ولا بدَّ لك من قبلِ أن تكلمَ أحداً أن تعرِفَ من أيِّ بابٍ من هذهِ الأبوابِ تدخُلُ عليهِ. )) انتهى.

ثم يقولُ الأستاذُ _رحمه الله تعالى_ (ص378) :
(( ليستِ العبرةُ بألفاظِ الكلامِ فقط، بل باللهجةِ التي يُلْقَى بها هذا الكلامُ، والتحيةُ إن أُلْقِيَت بلهجةٍ جافةٍ كانت شتيمةٌ، والشتيمةُ إن أُلْقِيَت بلهجةِ حُبٍّ كانت تحيةً، والولدُ الصغيرُ يعرفُ هذا بالفطرةِ. إن قلتَ وأنتَ ضاحكٌ: (أخ يا خبيث) سُرَّ وابتسم، وإن قلتَ وأنتَ عابسٌ مهدِّدٌ: (تعال يا آدمي يا منظوم) خافَ وهَرَب )) انتهى.

ويختمُ الأستاذُ مقالتَه -بعدَ مواقفٍ طريفةٍ وأمثلةٍ من واقعِ الحياةِ على ارتباطِ الأسلوبِ واللهجةِ بمعنى الكلامِ- (ص382) :
(( إِنَّ مِنْ أماراتِ الحُكْمِ على شخصيَّةِ الإنسانِ لَهْجَةُ كلامِه، فمَنْ كانَ يتكلَّمُ بصوتٍ هادئٍ ولهجةٍ مُتَّزِنَةٍ، وحُرُوفٍ واضحةٍ، كانَت له شخصيّةُ المهذَّبُ النبيلُ. ومَنْ كانَ مُرْتَفِعَ الصَّوْتِ، حادَّ اللَّهْجَةِ، يتشدَّقُ في كلامِه أو يمطُّ الحروفَ، لم تكُنْ له هذهِ الشخصيَّةِ. وقَدْ ترى امرأة جميلةَ الوجهِ وأخرى دُونَها جمالاً، ثم تسمَعُ كلامهَما، فتجدُ صوتَ الأولى خشناً ولهجتها قاسيةً، وهي مسترجِلَةٌ في نطقِها، وتجدُ للثانيةِ صوتاً رقيقاً، ولهجةً ناعمةً، ونغمةً حبيبةً، فيزيدُ في عيْنَيْكَ جمالُها حتى لتجدُها أجمَلُ من صاحبتِها، بَلْ ربما شوَّهَ كلامُ الأولى صورتَها في بصرِك حتى رأيتَ جمالُها قُبْحاً. )) انتهى.


______________________________
(1) في سببِ هذهِ التسميةِ; قالَ الدكتورُ يوسفُ القرضاويُّ في كتابِه « في وداعِ الأعلامِ » (ص48 - طبعة 1424هـ) :
(( كانَ الإمامُ أبو محمد بن قتيْبة مِنْ أئمَّةِ القرْنِ الثالثِ الهجْريِّ، وكانَ موسوعيُّ الثقافةِ، كما يدلُّ على ذلكَ إنْتاجُه الغزيرُ والمتميزُ في اللغةِ والأدبِ، والتاريخِ، وعلومِ القرآنِ والحديثِ. وكانوا يعدونَه خطيبَ أهلِ السنةِ المدافعِ عنهُم، كما كانَ الجاحظُ يعدُّ خطيبَ المعتزلةِ، كما أطلقوا عليه لقباً معبراً عنه بحق، هو: أديبُ الفقهاءِ، وفقيهُ الأدباءِ!
وإني أرى هذا اللقبَ أو هذا الوصفَ جديراً أنْ يطلقَ على علامتِنا الشيخ علي الطنطاوي، الذي كان ينحو سبعين سنة من عمرِه المبارك الذي بلغ التسعين، مشعلاً من مشاعلَ الهدايةِ ونجماً من نجومِ التنويرِ، ولساناً من ألسنةِ الصدقِ، وداعيةً من دعاةِ الحقِّ والخيرِ والجمالِ، وكانَ يجمعُ في عظاتِه بيْنَ العلمَ والأدبِ، أو بيْنَ الإقناعِ والإمتاعِ. )) انتهى كلام الأستاذ القرضاوي.

(2) علَّقَ الأستاذُ الطنطاوي _رحمه الله تعالى_ في هذا الموضع:
(( لي في سنة 1347هـ مقالات في مجلة الزهراء التي كانت تصدر في القاهرة وكانت المجلة الأدبية الأولى، ولي مقدمة بكتاب الظراف والمتماجنين لابن الجوزي، وكتاب المطالع النصرية وقد طبعا سنة 1347هـ. )) انتهى.
قلتُ: فالشيخُ الطنطاوي من جيلٍ كبيرٍ ومِنْ رُوَّادِ الأدب في تلكَ الفترةِ الغنيةِ. وتجدُ في أعدادِ مجلةِ الرسالةِ عام 1355هـ -أو أقدم-، مقالات للشيخ الطنطاوي بجوار الأسماء المعروفة التي كانت تكتب في الرسالة تلك الفترة: «أحمد حسن الزيات»، «مصطفى صادق الرافعي»، «إبراهيم عبد القادر المازني»، «عباس محمود العقاد»، . . . الخ.

(3) قال الجرجاني في « التعريفات » :
(( النكتةُ هي مسألةٌ لطيفةٌ أُخرِجَت بدقةِ نظرٍ وإمعانٍ، وسُمِّيَت المسألةُ الدقيقةُ: نكتةٌ، لتأثيرِ الخواطرِ في استنباطِها )) انتهى بتصرفٍ يسيرٍ.

 

Mohannad Najjar غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس